د./ محمد الميتمي – سفير اليمن بجمهورية الصين الشعبية
ما أن وطأت قدماي أرض الصين هذا البلد الضارب جذوره في أعماق التأريخ والناهض بقوة وعنفوان وشموخ على واجهة العصر الحديث حتى سمعت نداء مدوِيّاً يجلجل في أعماقي. ما بالك أيها اليمن العظيم بتأريخه وتراثه وثقافته وحضارته المشرقة البهية منذ فجر التأريخ الإنساني تغط اليوم في سبات عميق. ما الذي حَلّ بك لتبدو هكذا ضعيفا مطأطاَ قامتك الشامخة “لمغول” العصر الحديث وجَرَادِه. ماذا دهاك لتحيل التراب على ما تملكه من عطاء إنساني خلاق وتغرق نفسك وأهلك في صراعات وحروب داخلية لا ينتفع منها سوى أعداؤك. يا ترى ما القيود والأغلال التي تكبلك اليوم عن الانطلاق والنهضة في رحاب العصر لتأخذ مكانك بين الأمم الحية الناهضة والفاعلة في الصيرورة التأريخية. كفى خنوع واستسلام لفوضى التأريخ. هيا قم فأنهض من كبوتك كما نهضت الصين من كبوتها بعد ان كاد جسدها يتعفن من التقهقر والأمراض الاجتماعية وصراع الاخوة الأعداء وكيد ومؤامرات الطامعين حتى كادت ديدان المقابر وسكاكين الغزاة والمستعمرين والدخلاء وهي تنقض عليها تحيلها إلى غبار يتطاير في فوضى التأريخ.
وجدتني كسفير مفوض فوق العادة لوطني في هذا البلد، أنا القادم من (العربية السعيدة) التي حمل الـتأريخ الإنساني منذ القدم على أجنحته المرفرفة في سماوات الحضارات الإنسانية المبجلة والخلاقة، أتأمل كيف أستطاع الصين أن يتجاوز محنته التي كبلته لقرون قوى الشر والطغيان – كما تفعل معنا اليوم- ليغدو قوة هائلة جبارة تتربع على سلم الحضارة الإنسانية المعاصرة.
أتامل لا بعين الفضولي المتجول، وإنما ببصيرة وعقل مواطن يمني جٌبِل من تراب هذا البلد وتغذى من تأريخه وشرب من تراثه وتقاليده ويتنفس أسمه. الألم يمزقني والحسرة تأكلني على ما آلت إليه أوضاع بلدي وبؤس ومعاناة شعبه الطيب الكريم الذي يأنُّ ويتلوّى وجعاَ من مرارة الحرب الشرسة المدمرة وقسوة التقهقر والركود التي نغرق فيها لعقود طويلة، مطوقون وبإحكام بأغلال الجهل والأمراض الاجتماعية وشراسة وهمجية الأعداء المحليين منهم والفرس الغرباء الذين يسفكون دماء اطفالنا ونساءنا وشيخونا وشبابنا بعدوانية وشراهة الوحش القاتل المتعطش للدم.
اتأمل تلك النهضة الحضارية الكبرى في جمهورية الصين الشعبية على كافة الصعد والمجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية، الثقافية والمعرفية والفلسفية، النهضة التي لم تكتفِ بتحرير مئات الملايين من مواطنيها (800 مليون إنسان) من أغلال الفاقة والجهل والمرض في غضون أربعة عقود ليس إلّا ، وإنما أيضا أسست لنمط من الحياة يجسد المعنى الإنساني الخلاق والثري بالحياة والعيش في وئام وسلام وتناغم مع الآخر. لتغدو الصين اليوم الدولة الأسرع نموا في العالم والأقوى اقتصاديا بعد الولايات المتحدة الأمريكية والتي من المتوقع أن تتخطاه مع نهاية العقد الحالي على أقل تقدير. إنها قصة نجاح مذهله وملهمة لليمن والعديد من البلدان النامية، وخاصة عندما يمد بحر التراث الغزير والمتنوع والثقافية الوطنية الغنية لامة عريقة كاليمن بما تحتاجه من وقود وغذاء للنهضة والتطور. استلهمت الصين من تراثها الغني وتأريخها العريق وقود نهضتها ومحركات نموها السريع واستقرارها، واعتمدت نظام الجدارة السياسية بدلا عن الليبرالية السياسية كنظام للحكم برهنت على فاعليته وكفاءته واستقراره. لقد صححت الصين بنهضتها الكبرى وخياراتها السياسية مسار التأريخ الوطني الصيني كما صححت مسار التأريخ العالمي ومقولاته المعيارية.
إن نظام الجدارة السياسية التي اختطته الصين طريقا لنهضتها وقبلها سنغافورة هو نظام يقوم على أساس العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة وفقا للقدرات والجهد والخبرة والمهارات الاجتماعية والفضيلة بدلا عن الطبقة الاجتماعية أو الانتماء القبلي والمناطقية الضيقه، أو الخلفية العائلية، أو المرجعية الدينية ،أو مزاعم الاصطفاء الإلهي والنقاء العرقي. ليست القدرة هنا وحدها هي التي تؤهل الحاكم لتولي منصب القيادة ليتولّى من خلالها تقرير مصائر البشر. أن يولد الأنسان بقدرات خارقة أو مميزة لا يمنحه ذلك حقا طبيعيا وقانونيا وأخلاقيا في الثروة والحكم. لأن ما وُلِدَ به ليس من فعله. فعليه أن يجتهد ويعمل على أساس مبادئ الفضيلة وحب الناس ليكون أهلا لهذا المنصب. هذه المبادئ الخلاقة لنظام الحكم استلهمها الصينيون من تراثهم الكونفوشي المجيد. وما أغزَرُها أيضا في ثقافة بلدي اليمن وتراثه.
إن نظام الجدارة السياسية المتبع في الصين وسنغافورة يقوم على اختيار القادة وموظفي الدولة والقطاع العام وترقيتهم من خلال امتحانات وتقييمات مستمرة ودورية للأداء تم استلهامها وتطويرها من تراث الامبراطوريات والممالك الصينية القديمة. ولقد علق عالم الاجتماع الأمريكي الشهير دانيل بيل على نظام الجدارة السياسية هذا قائلا: نريد أشخاصا في المواقع السياسية يُمكِّنُهم من مباشرة الحكم بشكل فعال منتظم وجيد. إن مستوى الحياة ودرجة الاستقرار في أي مجتمع – يضيف قائلا- تتحدد إلى حد كبير بنوعية القادة الذين يتربعون على هرم السلطة. فالمجتمع الذي لا يحكمه أشخاص يتمتعون بالقدرة والخبرة والمهارة والمعرفة والفضيلة هو مجتمع محكوم عليه بالفشل والذل والهوان، تهيمن عليه الصراعات والعنف والحروب بدلا عن الاستقرار والتطور والازدهار.
يستعرُ اليوم جدل كبير بين رجال الفكر والفلسفة والسياسية حول أفضلية النظم السياسية للأوطان في عصرنا الراهن وخاصة البلدان النامية ومن بينها اليمن: هل هي الديموقراطية الليبرالية أم الجدارة السياسية؟ كما نعلم جميعا أن الشعب في البلدان الديموقراطية يختار قادته. ويرجع إلى هؤلاء الناخبين الحكم على جدارة المرشحين لبلوغ سدة الحكم والقيادة. فـاذا كان الناخبون يتمتعون بالمعرفة الكاملة والأدراك والبصيرة والعقلانية فضلا عن توفر المعلومات الصحيحة والكافية لهذا الناخب عن المرشح للمنصب فإن ذلك يمكنهم من اختيار القادة المناسبين لأداء المهام التي يرتجيها الشعب منهم. وهي كلها صفات وخصا
Conditions of Renaissance in Yemen and Chinese Inspiration